المادة    
  1. ابن كثير رحمه الله

    لنأخذ نموذجاً تطبيقياً فيما نقول من كلام الحافظ ابن كثير رحمه الله، ونقارنه ببعض كلام الغربيين؛ حيث ذكر الحافظ ابن كثير رحمة الله عليه في البداية والنهاية -وهذا الكتاب من أنفع الكتب وأفضلها في كتب التاريخ- عندما ذكر ترجمة نوح عليه السلام ابتدأ بأن أتى بنسب نوح عليه السلام على طريقة أهل الكتاب -أي: النسب الموجود في التوراة- لأنه ليس عند المسلمين غيره, وقد يكون في رأيه وفي رأي غيره أنه من الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم: (أن يُحدث عن بني إسرائيل فيه ولا حرج). المهم هذا شاهد لنظرية وطريقة معينة, ثم قال: وعلى تاريخ أهل الكتاب المتقدم يكون بين مولد نوح وموت آدم مائة وست وأربعون سنة -هذه النقطة المهمة- فهو نَسب إلى أهل الكتاب الخطأ الشديد الذي وقعوا فيه -والذي سبق أن نبهنا إليه- عندما حرفوا كتابهم وذكروا هذا..
    ثم انتقل -بدون أن يُشعرك بالنقلة- بشكل مباشر ومفاجئ فيقول: وكان بينهما عشرة قرون.
    إذاً: العشرة القرون تناقض قطعاً الآن ما ذكر من هذه المدة، وأخذ يفصل ذلك فاستند إلى الوحي المعصوم الثابت، وهذا الذي نريد أن نثبت؛ أنه بالاستناد إلى الوحي يظهر دائماً الصواب، المهم أن يكون صحيحاً وثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال كما أخرج الحافظ أبو حاتم ابن حبان في صحيحه عن أبي أمامة رضي الله عنه (أن رجلاً قال: يا رسول الله! أنبي كان آدم؟)، وهذا من الأسئلة العجيبة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يجيب عليها, وكان الصحابة يسألون عنها؛ ومثل ذلك: حديث عمران بن حصين (أنهم سألوه عن أول هذا الأمر؟) يعني: عن هذا الكون كيف كان؟ وكيف نشأ؟
    وهنا يقول: (أنبي كان آدم؟)، فالسؤال يدل على علم السائل وحرصه على العلم النافع، فضلاً عما هو أعظم من ذلك؛ ما أوتيه صلى الله عليه وسلم من العلم من عند الله تبارك وتعالى. فقال: (نعم نبي مُكلم -يعني: نبي يكلم- فقال له الرجل: كم بينه وبين نوح؟ قال: عشرة قرون).
    يقول الحافظ ابن كثير: هذا على شرط مسلم ولم يخرجه، ثم ذكر في صحيح البخاري الأثر -الذي سبقت الإشارة إليه- الموقوف على ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنه قال: [كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام].
    هذه إضافة مهمة جداً من ابن عباس رضي الله عنه، وهذا الكلام مما لا يقال رجماً بالغيب، فلو لم يكن هذا الحديث إلا من كلام ابن عباس -يعني: لو فرضنا أنه موقوف فقط ولا يحتمل الرفع مع أنه يحتمله- لكان ذلك حقاً؛ لأن ابن عباس رضي الله تعالى عنه ترجمان القرآن، وقد نبّه الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه أن ثلاثة لا أصل لها -يعني: لا يعتمد عليها- السند القطعي, وإنما إذا صحت وثبتت وتقررت أو تُداولت فإن الناس لا تبحث لها عن أصول؛ لأنها تقرر بغير السند وهي: التفسير، والمغازي، والسير, مثلاً: هذا التفسير إذا جاء عن صحابي فنحن نقبله، إن كان من كلامه أو إن كان يحتمل الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إلا إذا كان يخالف الكتاب والسنة فالاجتهاد يُرد بالنص.
    على كل حال يبدأ ابن كثير رحمة الله تبارك وتعالى عليه ويبين شيئاً مهماً جداً يقول: ما المراد بالقرن إذاً؟!
    هنا ننتقل إلى المنهج الثالث أو القضية الثالثة: وهي إعمال العقل والاجتهاد والنظر والتفكير الصحيح في الوحي أو حتى في الآثار والنقوش، فهذا يؤدي إلى العلم.
    هذه طريقة من طرق العلم النافع التي يجب على البشرية أن تفعلها، فهنا نجد أن العقل المسلم هكذا, فقد نقل ابن كثير عن الكتاب, ونقل عن النبي صلى الله عليه وسلم, ثم بدأ يُعمل عقله, ويقول: ولكن كم القرن؟
    فقال: إن كان مائة عام -كما يظنه كثير من الناس- فإذاً بين آدم ونوح عليهما السلام تكون المدة ألف عام, وإن كان المراد بالقرون: الجيل من الناس, كما جاء في كتاب الله تبارك وتعالى: (( وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ ))[الإسراء:17], وكثير من الآيات فيها كلمة (القرون) تعني: الجيل أو الأمة العظيمة، فقوم نوح قرن، وعاد قرن، وثمود قرن؛ بمعنى: إن كان المراد بالقرن أمة فإذاً هناك أمم كثيرة كانت ما بينهما.
    بل يقول: كان الجيل قبل نوح يعمرون الدهور الطويلة؛ فعلى هذا يكون بين آدم ونوح ألوفاً من السنين؛ لأن هذه القرون كما ذكرنا عشرة قرون على التوحيد، ثم قرون الانحراف إلى بعثة نوح عليه السلام هذا معناه: دهور تقدَّر بألوف السنين!
    وبذلك نكون استطعنا أن نشكل قدراً معيناً من الحقيقة في هذا، منها: ما يعتمد على الوحي، ومنها ما يعتمد على النقل والاستنباط من الوحي، وحذفنا ما لا داعي له؛ وهو النقل عن أهل الكتاب؛ بل حقيقة هو عين الخطأ؛ لأنه هو الذي يوقعنا في الخطأ، فهذا نتبرأ منه.
    الحديث كما ذكر ابن حبان والحافظ ابن حجر ذكره في فتح الباري في بدء الخلق, وذكر أنه صحيح فعلاً.
    إذاً: لدينا هنا مصدر أو مرجع من الوحي المعصوم صحيح في هذه المسألة، فهو مَعْلم ثابت, وممكن نضع نقاط ارتباط ثابتة ثم بعد ذلك نسد الفجوات والفراغات في هذه المسيرة الطويلة بإذن الله تبارك وتعالى.
  2. البقاعي رحمه الله

    إذا انتقلنا إلى نموذج آخر، فهناك نموذج في التفسير فريد وهو الحافظ برهان الدين إبراهيم بن عمر البقاعي رحمه الله, وهو رجل قدم نموذجاً فريداً في فهم القرآن وفي تفسيره، ويتميز تفسيره - نظم الدرر في تناسب الآيات والسور - بالتناسب -هذا موضوعه- وبشيء آخر وهو النقل عن أهل الكتاب, والمقارنة بينها وبين ما في القرآن والسنة، وهذا أخذه عليه كثير من العلماء, فقالوا: إنه أخطأ في النقل الطويل عن أهل الكتاب؛ لكن حقيقة نحن الآن نُعجب بهذا؛ لأسباب:
    أولاً: -وهذا أمر بعيد عن موضوعنا لكنه مهم جداً- نقله عنهم لكي تطابق أنت، وتستطيع أن تطابق الفصول التي نقلها -وهو متوفى سنة 885ه- بما هو موجود الآن في الأناجيل؛ لأن تراجم الأناجيل متأخرة؛ ففي إمكانك أن تطابق من مصدر موثوق إن شاء الله، وهذه تهم الدارسين في موضوع الأديان والتحريف الذي وقع في الأناجيل وفي التوراة وغيرها, فأحياناً أفرح حين ينقل نقلاً أطول حتى أقارنه بما في طبعات الكتاب أو العهد الجديد والعهد القديم الطبعة الكاثوليكية أو البروتستانتية أو السامرية أو غير ذلك, هذا جانب.
    الجانب الآخر: أنه حين يقارن يأتيك بمنهج استدلالي عقلي في غاية البراعة وفي غاية اللطف.
    فهو عند آية الفرقان -التي تعرضنا لشيء من تفسيرها في اللقاء الماضي- قول الله تبارك وتعالى: (( وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا ))[الفرقان:38], يقول الحافظ البقاعي رحمه الله: هذا أمر عظيم مذكور وهو بين كل أمتين, وناهيك بما يقول فيه العلي الكبير إنه كثير! أي: ليس قليلاً, فهو عدد هائل كبير جداً.
    ثم ذكر حديثاً هنا عجيباً جداً واستنبط منه استنباطاً عجيباً، قال: عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بعد العصر فما ترك شيئاً إلى يوم القيامة إلا ذكره في مقامه ذلك, حتى إذا كانت الشمس على رءوس النخل وأطراف الحيطان قال: -هنا موضع الشاهد- أما إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى إلا كما بقي من يومكم هذا, ألا وإن هذه الأمة توفي سبعين أمة هي آخرها وأكرمها على الله عز وجل).
    أول ما استنبط أن قوله: (( وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا ))[الفرقان:38], أن الأمم المعروفة في القرآن معدودة ومحصورة, بينما هناك سبعون أمة! فلو قلنا: قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الرس وشعيب وكذا يبقى الأكثر! يمكن ثلاثة أرباع تبقى غير مذكورة؛ لكنها موجودة في التاريخ.
    فمعنى (كثيراً) أي: من هذه الأمم، هذا الاستنباط الأول.
    ثم قال: وفي بعض ألفاظهم -يعني: بعض ألفاظ الروايات؛ لأن الحديث رواه الإمام أحمد و الترمذي و ابن ماجه - (وجعلنا نلتفت إلى الشمس هل بقي منها شيء), كان الصحابة رضي الله عنهم يلتفتون إلى الشمس هل بقي شيء منها؟! معنى ذلك أن شيئاً ضئيلاً جداً هذا الذي بقي ليذهب ذلك اليوم وتغيب شمسه.
    يقول: وهذا يدل على أن الذي كان قد بقي من النهار نحو العشر من العشر -عشر العشر فقط كان باقياً من نهار تلك اللحظة على تقدير الحافظ البقاعي- ثم يقول: وهذا يقتضي إذا اعتبرنا ما مضى لهذه الأمة من الأزمان أن يكون الماضي من الدنيا -يعني: بالنسبة بالتقدير- من خلق آدم عليه السلام في يوم الجمعة الذي يلي الستة الأيام التي خلقت فيها السموات والأرض أكثر من مائة ألف سنة. والله أعلم.
    لاحظوا هذا الاستنباط البديع! يقول: إذا لم يبق إلا هذا القدر من الشمس والذي قدّره بعشر العشر فمعنى ذلك أن مائة ألف سنة مضت منذ خلق آدم عليه السلام.
    لا يهمنا الرقم ولا نقول: إن هذا قطع؛ لكن المقصود هو كيف أن المسلمين يمكنهم أن يستنبطوا, وأن يصلوا إلى الحقائق عن طريق التقدير بدون أي إشكالية؛ فلم يؤثر هذا في إيمانهم ولا يؤثر على أن أحداً رد عليه أو ناقشه؛ بل بالعكس سنرى -إن شاء الله- أشد من ذلك فيما ننقل عن مؤلفين آخرين.
    المهم أن هذه الحقائق قابلة للاستنباط والنظر؛ فمنها ما هو قريب إلى القطع، ومنها ما هو مجرد ظن، ومنها ما لا إشكال في رده أو قوله فهو مجرد اجتهاد بشري؛ لكن من غير أن نقع فيما وقعت فيه أوروبا حينما حل فيها ذلك الصدام العنيف والمعركة العنيفة، والتكفير الشنيع الشديد في تحديد هذه المدد للأنبياء ولغير الأنبياء، وامتد ذلك حوالي أربعة قرون ولا يزال -كما ذكرنا- في المعركة بين كلينتون ومنافسه في ولاية أركنسو في أمريكا .
  3. المسعودي مع المقارنة بعلماء الغرب

    هنا ننتقل إلى مصدرين إسلاميين آخرين:
    المصدر الأول: يعتبر متقدماً وهو المسعودي المؤرخ المشهور في أوائل القرن الرابع الهجري.
    الطرافة هنا: أننا عندما ذكرنا أن حضارة بلاد ما بين النهرين لها تاريخ أسطوري هائل جداً، وأن الملوك العشرة أو القرون العشرة حكموا أربعمائة واثنين وثلاثين ألف سنة! وأن بعض ملوكهم حكم أكثر من ستين ألف سنة! يعني: تستطيع أن تعطي معدل أكثر ملوكهم عشرين إلى ثلاثين ألف سنة!
    الأرقام هذه التي حيرت علماء الغرب وأذهلتهم! هربوا من الضيق الشديد الذي ألجأتهم إليه تقاويم التوراة إلى هذه السعة المفرطة جداً التي لا تكاد العقول أن تصدقها! فاحتاروا ماذا يصنعون؟ فبقوا مترددين وحائرين, على سبيل المثال: مؤلف أمريكي ألَّف كتاباً اسمه: الماضي الحي, ترجمه الدكتور: شاكر إبراهيم، وهو كتاب من أفضل الكتب في هذا الباب لولا الطابع العلماني عليه؛ لكن هذا الكتاب يجمع بين نظريتين: بين الحقيقة وهي قصر الحضارة، التي هي عند علماء التاريخ اللاديني أو التاريخ الغربي الحديث عموماً، فما يرونه حقيقة هو أنه إلى ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف سنة قبل الميلاد بدأت الحضارة وبدأت الكتابة، ويجمع -دون أن يشعر- في بعض المواضع بينها وبين الجانب الأسطوري الكبير.
    مثلاً: عندما تكلم عن حضارة سومر -بلاد ما بين النهرين عموماً- يقول: إن ما بين سبعة آلاف سنة أو نحو ذلك. تقريباً أعطاها أبعد مدى سبعة آلاف سنة، في الفصل الذي تكلم فيه عن حضارة الصين ذكر أنها خمسمائة ألف سنة! كيف يمكن هذا؟!
    الحل الذي أرادوا أن يحلّوا به أن يقولوا: إن أربعة آلاف سنة إلى سبعة آلاف هي الحضارة: الكتابة، التدوين، العلم، أما ما قبل ذلك بمئات الألوف فهي همجية وبدائية لا قيمة لها, فلم يمكنهم أن يجمعوا بين هذا, ولو أنهم اختصروا المدة وعرفوا ما جاء في الوحي أنهم كانوا على التوحيد لانحلت الإشكالية.
    نقرأ قليلاً من كلامه في إعجابه هو المؤلف الدكتور: إيفار ليسنر يقول: لولا الشرق القديم لما أصبحنا على ما نحن عليه, وبدون فهمه لم يتسنَ لنا قط معرفة أنفسنا لقد انتقلت إلينا من السومريين مظاهر حضارية كثيرة عن طريق الآشوريين والبابليين والمصريين واليونان والرومان, وكشفت الحفريات في بلاد ما بين النهرين عن جذور تطورنا الفكري والروحي, إن الأبجدية -يعني: الحروف الأبجدية- التي نعرفها وعقيدتنا الدينية ونظامنا القانوني وفنوننا إنما رسمتها جميعاً من قبل عملية تطور طويلة؛ فمن بلاد ما بين النهرين ومن السومريين جاء ما يمكن أن يعتبر نقطة انطلاق حاسمة في تاريخ الحضارات جميعاً؛ ألا وهو فن الكتابة.
    ثم يبدأ يقول كيف الذي ألف كتاب تاريخ العالم وأصدر مجلدات منه قبل الحرب العالمية الأولى يقول عن تاريخ السومريين: إننا لا نعرف عنهم شيئاً.
    يعني: أدهشتهم هذه الاكتشافات ولم يستطيعوا التوفيق بين خمسمائة ألف سنة من آثار حضارة وجدت كما يدّعون؛ وبين أربعة آلاف سنة ونحوها التي فيها الكتابة، فسدوا الفراغ بأن افترضوا أن ما قبل أربعة آلاف سنة إلى خمسمائة ألف سنة كله عصر بدائي لا كتابة فيه وإنما هو همجية ورعاع.
    هنا نرجع إلى المسعودي فنجد المقارنة, شيء عجيب جداً حقيقة, وهو قد نقل عن كتبهم, يقول تحت عنوان: ملوك بابل المعروفين بالكلدانيين؛ وملوك بابل هؤلاء القدامى جعل أولهم هو نمرود الجبار , وكان ملكه نحواً من ستين سنة -والذي سبق أن قرأناه: أنه كان ستين ألف سنة- وبعده بولو أو بولوز سبعون سنة، وبعده فلان مائة سنة وبعده فلان عشرون إلى خمسة عشر إلى عشر إلى سنة واحدة.. إلى آخره.
    فذكر أكثر من أربعين ملكاً، وكل التواريخ معقولة, ويمكن أن تكون وقعت, ولم يشر إلى شيء من ذلك؛ ويرجع ويقول: قرأ ذلك من كتبهم!
    هل هذا اطلع على كتب لم يطلعوا عليها أولئك؟ لماذا لم يطلع عليها الغربيون من قبل؟ ما هي المفارقة العجيبة في هذا؟!
    النظرة الإسلامية دائماً نجدها معقولة وقريبة، مثلاً أفريدون على سبيل المثال -هو الذي وَجدت مبالغة في كلام المسعودي عنه- يقال: إنه حكم خمسمائة سنة! يعني: الرقم غريب جداً, ونحن نفترض أنه خطأ بدون نقاش تقريباً؛ لكن القضية: الفرق بين الذي قال: خمسمائة وبين الذي جعلها ستين ألف سنة! الخطأ قد يكون مشتركاً، لكن هناك خطأ فاحش بعيد عن التصور، وهناك خطأ معقول قد يكون قريباً من الحقيقة أو شيئاً من هذا.
    المقصود: أن المنهجية التي سار عليها علماء المسلمين في هذا تلقي الضوء على المصادر، وأنها كانت قريبة ومعقولة، أن لديهم مصادر نقلية, وحتى ما يسمى المصادر الحديثة من قراءة النقوش، وقراءة المكتوب على الحجارة وما أشبه ذلك كان موجوداً ومعروفاً في مواضع كثيرة من تاريخ دمشق لــابن عساكر نجد أنه وُجد حجر فقرأه فلان أو قرأه كعب أو قرأه غيره، وأيضاً في أول سيرة ابن هشام :
    في الحجر المنقوش تحت المنبر
    بيت من الشعر يعني: أنه حجر منقوش تحت المنبر.
    فكانت النقوش معروفة، وكانت قراءة الكتابة والخطوط القديمة معروفة، فمصادرهم قد تكون من هذا ومن هذا، وإن كانوا طبعاً لم يستطيعوا حلَّ رموز بعض اللغات القديمة، لا المسعودي ولا المقريزي ولا غيرهم؛ فعندما يرون الأهرام يقولون: هذه صور حيوانات، ولا يدرون أنها خطوط قديمة؛ لكن جهلهم بهذا لا يجعلنا نحط من قدرهم بقدر ما نجل ونقدر فيهم أنهم من وسائل قليلة -لا نملك نحن كثير منها- قد استنبطوا وكتبوا كلاماً قريباً من الحقيقة التي يمكن أن تصدق بالعقل المجرد بغض النظر عن الواقع التاريخي.
  4. المقريزي ومقارنة أشمل

    قبل أن ننقل كلام الإمام المقريزي في الخطط , ونبين مزيته التاريخية والعلمية في المعرفة, نحاول أن نجعل القضية قضية مقارنة بشكل أشمل، سوف نأتي بدائرة معارف غربية حديثة دقيقة في النقل -تقريباً معتمدة- وننقل من كتاب مدرسي معروف ومنتشر بين أبنائنا, وأيضاً ننظر كلام الحافظ المقريزي في هذه القضية.
    نبدأ بالحافظ المقريزي رحمه الله، وهو تعرض عرضاً في الحقيقة -لأن كتاب الخطط هو عن مصر بالذات- للتواريخ التي كانت الأمم تؤرخ بها استطراداً من تاريخ القبط وغيره، فتحدث حديثاً عجيباً طويلاً نقل عمن قبله -يشمل من قبله- ونقل على اختلاف المناهج، من يرى الآماد البعيدة بدون تحفظ، ونقل من أدق الفقهاء وأشدهم جزماً في هذه المسألة وهو ابن حزم رحمة الله تبارك وتعالى عليه، وأصل تأصيلاً عظيماً وقال:
    أولاً: ما ليس لدينا فيه علم من الكتاب والسنة فهو احتمال ونحن نورده.
    الأمر الثاني: عندما أورد التواريخ والآماد الطويلة التي نعرض جانباً منها، قال: لا ينبغي للعاقل أن يبادر بانتقاد أهلها -أو بشيء من ذلك- أنا بينت مأخذهم حتى لا يبادر العاقل إلى ذلك! احتراماً للرأي الآخر وإن كان آماداً بعيدة، لأنه ليس لدينا في ديننا ما ينفيه أو أما يجعله باطلاً بشكل قطعي، فينبغي أن يؤخذ في هذا الإطار؛ ليعلم من أين أخذه الذين أخذوه, ثم عندما انتقل إلى كلام ابن حزم رحمه الله وختم به؛ فكأنما هو الخاتمة, وفعلاً هو كلام قيم وثمين, سنأتي عليه إن شاء الله تبارك وتعالى.
    ابتدأ الحافظ المقريزي يتحدث عن البراهمة, والبراهمة لما قرأ الغربيون كلامهم دهشوا وذهلوا جداً جداً! كما في تاريخ القرن السادس عشر إلى العشرين؛ لكن نحن في التاريخ الإسلامي عادي جداً، هو نقل من كلام الكتب التي تَقَدّمته، ليس هناك أي مشكلة في أن يكون عندهم هذه الأعداد.
    مثلاً: نقل عن البيروني و المسعودي أيضاً بعض كلامه مطابقاً له، ونقل عن كثير؛ منهم من أشار إليه ومنهم من لم يشر إليه.
    على سبيل المثال: بعد أن ذكر كلامه في أزمنة وأحقاب كونية متوالية, وكل حقبة عشرة آلاف سنة مثلاً يقول: المدة العظمى على هذا ثلاثة آلاف ألف ألف ألف سنة وستمائة ألف ألف ألف سنة؛ تقدر بستمائة مليار سنة وثلاثة مليارات سنة!
    كلام غريب جداً! لا يمكن؛ فلذلك عقب عليه بقوله: (( وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ ))[هود:123], ثم قال: وإنما ذكرت هذا الشيء ليعلم المنصف أنهم لم يضعوه عبثاً, يعني: هم وضعوه افتراضاً أي: مبني على فرضية وليس هكذا ارتجالاً، نحن لا نقرّ هذه الفرضيات؛ لكن يقول: حتى نعلم ذلك ونعلم أن هذه الأمم وضعت هذا التاريخ والآماد البعيدة، البراهمة وكذلك قريباً منهم الصين .
    يرجع إلى أبي معشر الذي كان في الإسلام, ثم يقول: وزعم قوم من الفرس -على كلام أبي معشر- أن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة -لاحظ من هذا الرقم إلى الرقم الآخر- وقال قوم: تسعة آلاف, وقال قوم: واحد وعشرون ألفاً, وقال قوم: ثمانية وسبعون ألفاً.
    وكلها أقوال بغير علم ولا دليل عليها ولا صحة لها، إلا أن مأخذهم فيها هو الأبراج والكواكب والطوالع، وسوف نشرح إن شاء الله في لقاء قادم.
    عندما بيّن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله تبارك وتعالى عليه في تفسير سورة الإخلاص، كيف وقع الشرك في بني آدم؟! وقع الشرك كما سبق في قوم نوح لما صورهم؛ لكن كيف وقع الشرك في قوم إبراهيم عليه السلام! ولماذا قصة إبراهيم عليه السلام في سورة الأنعام جاء فيها ذكر الكواكب وليس الأصنام؟! مع أننا نجد أن إبراهيم عليه السلام دعا ربه: (( وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ ))[إبراهيم:35]؛ فهنا اختلط على كثير من الناس هل إبراهيم عليه السلام دعا قومه إلى أن يتركوا عبادة الكواكب أو عبادة الأصنام؟!
    شيخ الإسلام يقرر أن هذه الأصنام أو الهياكل مبنية على تلك، يعني: على شكلها كنماذج لها أو كوسائط لها؛ أي: للكواكب العليا التي في السماء؛ فعُبدت الأصنام وعبدت الحجارة؛ لتكون رموزاً للمعبودات الأكبر عندهم، وهي الكواكب التي تتحكم في الكون.
    ومن الكواكب ومن أعدادها ومن منازلها وطوالعها ودرجاتها حاولوا أن يكتشفوا التنجيم, حقائق الكون, الأحداث، ومن ذلك عمر الدنيا بناء على عدد هذه الكواكب أو مطالعها أو ما أشبه ذلك.
    إلى أن يقول: وقال قوم: كانت المدة من آدم إلى الطوفان ألفين وثمانمائة سنة .. إلخ.
    والآن رجع إلى كلام أهل الكتاب اليهود و النصارى ، ثم بعد أن أفاض في هذا الكلام نقولات طويلة لا تهمنا، يهمنا في الأخير أنه ختم بالنقل عن الإمام الجليل ابن حزم رحمه الله, وهو الذي من كلامه في الفصل تسرب إلى أوروبا كما في رسالة سبينوزا رسالة في اللاهوت والسياسة وغيره، النقد التاريخي أول ما عرفت أوروبا النقد التاريخي للعهد القديم.
    فيقول: قال الفقيه الحافظ أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم : وأما اختلاف الناس في التاريخ فإن اليهود يقولون: أربعة آلاف سنة، و النصارى يقولون: الدنيا خمسة آلاف سنة، وأما نحن فلا نقطع على علم عدد معروف عندنا - يعني: نحن المسلمين لا نقطع في هذا- بل نقطع أن للدنيا أمداً لا يعلمه إلا الله تعالى، قال الله تعالى: (( مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ ))[الكهف:51], وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أنتم في الأمم قبلكم إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض), وهذه نسبة من تدبرها وعرف مقدارها ومقدار عدد أهل الإسلام ونسبة ما في أيديهم من معمور الأرض وأنه الأكثر، علم أن للدنيا أمداً لا يعلمه إلا الله تعالى.
    يقول: -الكلام لا يزال للإمام ابن حزم- وكذلك قوله عليه السلام: (بُعثت أنا والساعة كهاتين وضم أصبعيه المقدستين السبابة والوسطى), وقد جاء النص بأن الساعة لا يعلم متى تكون إلا الله تعالى لا أحد سواه، فصحّ أنه صلى الله عليه وسلم إنما عنى شدة القرب لا فضل السبابة على السباحة، إذ لو أراد ذلك لأخذت النسبة ... إلى آخره, يعني: لو كان يريد ذلك فإن الحديث الذي قبله لا ينطبق, وهو حديث كالشعرة البيضاء في الثور الأسود.
    قال ابن حزم رحمه الله: وله صلى الله عليه وسلم منذ بعث أربعمائة عام ونيّف -في أيام ابن حزم رحمه الله- والله تعالى أعلم بما بقي من الدنيا؛ فإذا كان هذا العدد العظيم لا نسبة له عندما سلف لقلته وتفاهته - التي هي أربعمائة سنة أو ثمانمائة عند البقاعي أو نحن الآن نقول: ألف وأربعمائة وستة وعشرون وهكذا من بعدنا, يقول: إذا كان هذا لقلته وتفاهته إلى ما مضى فنحن فعلاً كالشعرة في الثور أو الرقمة في ذراع الحمار.
    قال: وقد رأيت بخط الأمير أبي محمد عبد الله بن الناصر قال: حدثني محمد بن معاوية القرشي أنه رأى بـ الهند بلداً له اثنتان وسبعون ألف سنة، وقد وجد محمود بن سبكتكين -الذي فتح الهند الفاتح العظيم- مدينة في الهند يؤرخون بأربعمائة ألف سنة, قال أبو محمد : إلا أن لكل ذلك أولاً ولا بد ونهاية، لم يكن شيء من العالم موجوداً قبله - يعني: مهما قلنا بتقادم الأزمان فإن الله تعالى خلق هذا الكون وابتدأ خلقه ولم يكن موجوداً قبل أن يخلقه تبارك وتعالى, يعني: يكذب رحمه الله الملاحدة ويكذب المفترين.
    قال: ولله الأمر من قبل ومن بعد والله تعالى أعلم.
    إذاً: نجد أحقاباً وآماداً بعيدة، ونجد موقفاً واضحاً للعلماء من هذه الأحقاب والآماد، ويجعلون نقاط ارتباط ثابتة بالأحاديث الصحيحة ليصلوا إلى نظر تقريبي في هذا الموضوع، فهذا الشأن العام في التاريخ الإسلامي قبل ظهور العلم الحديث.
    ما الذي نجده في العلم الحديث؟ هذا الذي نريد أن نمثل به, كما قلنا دائرة معارف باللغة الانجليزية معروفة، وضّحَت ليس فقط تاريخ الإنسان, وتاريخ الخليقة بشكل مختصر -كما يزعمون-، أول ما يبتدئ من اليسار إلى اليمين 3,05 بليون سنة, -يعني: مليار- سابقة وهي أول الحياة البدائية في نظرهم كما تقول نظرية التطور, ثم يتطور ويتدرج كما تلاحظون إلى أن يصبح آخر رقم عشرة آلاف سنة!
    لاحظ النسبة الهائلة مليارات هنا وهنا فقط عشرة آلاف سنة! وهنا نجد صورة البشر بشكلهم الحقيقي الحالي ولكنهم عراة، -رجل وامرأة عراة ويشوون على النار- كما يظنون أن هذا هو بداية الإنسانية؛ عارية وهمجية واكتشاف النار وبداية الحضارة -يعني: نوعاً ما عندهم اكتشاف النار- فقط عشرة آلاف سنة!
    هذا الأمد العلم الغربي يراه كأنه حقيقة أو أشبه ما يكون بالحقيقة، ونحن لا يمكن أن ننكر أن هناك آليات لهذا؛ لكن هل بهذا الرقم؟ هل بهذه الدقة؟ طبعاً الله أعلم تختلف فيه الآراء، وهي عبارة عن الساعات التي يحسبون بها ومن أهمها الكربون, لعله في حلقة قادمة إن شاء الله يأتي الحديث عن كيف يحسب عمر الصخور أو عمر العظام أو ما أشبه ذلك من خلال الكربون بالذات.
    نرجع إلى المثال الثالث وهو كتاب مدرسي بسيط، كتاب علم الأرض للصف الثالث الثانوي قسم العلوم الطبيعية الذي تقرره وزارة التربية والتعليم في المملكة العربية السعودية ، فماذا نجد؟!
    نجده يتكلم -ومن خلال الاستدلال بالكربون المشع وغيره من الساعات النووية- أن عمر الأرض يزيد عن أربعة آلاف وستمائة مليون سنة، يعني: أربعة مليارات وستمائة، -وهو ليس كما في دائرة المعارف هنا- طبعاً هو ليس عمر الأرض؛ لكن يفترضون أن الأرض قبل بداية الحياة.
    هذه النسب كما نراها التفاوت بينها كبير، وليست القضية في التفاوت, بل القضية هي قضية أين المصدر الحق؟